بيان صفة الدنيا بالأمثلة
اعلم أن الدنيا سرعية الفناء قريبة الانقضاء تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة وهي سائرة سيراً عنيفاً ومرتحلة ارتحالاً سريعاً ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها وإنما يحس عند انقضائها ومثالها الظل فإنه متحرك ساكن متحرك في الحقيقة ساكن الظاهر لا تدرك حركته بالبصر الظاهر بل البصيرة الباطنة ولما ذكرت الدنيا عند الحسن البصري رحمه الله أنشد وقال: أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع وكان الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يتمثل كثيراً ويقول: يا أهل لذات دنيا لا بقال لها إن اغتراراً بظل زائل حمق وقيل إن هذا من قوله.
ويقال: إن أعرابياً نزل بقوم فقدموا إليه طعاماً فأكل ثم قام إلى ظل خيمة لهم فنام هناك فاقتلعوا الخيمة فأصابته الشمس فانتبه فقام وهو يقول: ألا إنما الدنيا كظل ثنية ولا بد يوماً أن ظلك زائل وكذلك قيل: وإن امرأ دنياه أكبر همه لمستمسك منها بحبل غرور مثال آخر للدنيا من حيث التغرير بخيالاتها ثم الإفلاس منها بعد إفلاتها.
تشبه خيالات المنام وأضغاث الأحلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدنيا حلم وأهلها عليها مجازون ومعاقبون وقال يونس بن عبيد.
ما شبهت نفسي في الدنيا إلا كرجل نام فرأى في منامه ما يكره وما يحب فبينما هو كذلك إذ انتبه فكذلك الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فإذا ليس بأيديهم شيء مما ركنوا إليه وفرحوا به.
وقيل لبعض الحكماء.
أي شيء أشبه بالدنيا قال أحلام النائم.
مثل آخر للدنيا في عداوتها لأهلها وإهلاكها لبنيا.
اعلم أن طبع الدنيا التلطف في الاستدراج أولاً والتوصل إلى الإهلاك آخراً وهي كامرأة تتزين للخطاب حتى إذا نكحتهم ذبحتهم.
وقد روي أن عيسى عليه السلام كوشف بالدنيا فرآها في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينةن فقال لها: كم تزوجت قالت: لا أحصيهم قال: فكلهم مات عنك أم كلهم طفلك قالت: بل كلهم قتلت فقال عيسى عليه السلام: بؤساً لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين! كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد ولا يكونون منك على حذر!.
مثال آخر للدنيا في مخالفة ظاهرها لباطنها: اعلم أن الدنيا مزينة الظواهر قبيحة السرائر وهي شبه عجوز متزينة تخدع الناس بظاهرها فإذا وقفوا على باطنها وكشفوا القناع عن وجهها تمثل لهم قبائحها فندموا على اتباعها وخجلوا من ضعف عقولهم في الاغترار بظاهرها.
وقال العلاء بن زياد: رأيت في المنام عجوزاً كبيرة متعصبة الجلد عليها من كل زينة الدنيا والناس عكوف عليها معجبون ينظرون إليها فجئت ونظرت وتعجبت من نظرهم إليها وإقبالهم عليها فقلت لها: ويلك من أنت قالت: أو ما تعرفني قلت: لا أدري! من أنت قالت: أنا الدنيا قلت: أعوذ بالله من شرك! قالت: إن أحببت أن تعاذ من شري فابغض الدرهم.
قال أبو بكر بن عياش: رأيت الدنيا في النوم عجوزاً مشوهة شمطاء تصفق بيديها وخلفها خلق يتبعونها ويصفقون ويرقصون فلما كانت بحذائي أقبلت علي فقالت: لو ظفرت بك لصنعت بك مثل ما صنعت بهؤلاء.
ثم بكى أبو بكر وقال: رأيت هذا قبل أن أقدم إلى بغداد.
وقال الفضيل بن عياض: قال ابن عباس يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية ومشوه خلقها فتشرف على الخلائق فيقال لهم أتعرفون هذه فيقولون: نعوذ بالله من معرفة هذه! فيقال: هذه الدنيا التي تناحرتم عليها بها تقاطعتم الأرحام وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم ثم يقذف بها في جهنم فتنادي: أي رب أين أتباعي وأشياعي فيقول الله عز وجل ألحقوا بها أتباعها وأشياعها.
وقال الفضيل: بلغني أن رجلاً عرج بروحه فإذا امرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة من الحلي والثياب وإذا لا يمر بها أحد إلا جرحته فإذا هي أدبرت كانت أحسن شيء رآه الناس وإذا هي أقبلت كانت أقبح شيء رىه الناس عجوز شمطاء زرقاء عمشاء قال: فقلت: أعوذ بالله منك! قالت: لا والله.
لا يعيذنك الله مني حتى تبغض الدرهم! قال: فقلت من أنت قالت: أنا الدنيا.
مثال آخر للدنيا وعبور الإنسان بها: اعلم أن الأحوال ثلاثة: حالة للم تكن فيها شيئاً وهي ما قبل وجودك إلى الأزل وحالة لا تكون فيها مشاهداً للدنيا وهي ما بعد موتك إلى الأبد وحالة متوسطة بين الأبد والأزل وهي أيام حياتك في الدنيا فانظر إلى مقدار طولها وانسبه إلى طرفي الأزل والأبد حتى تعلم أنه أقل من منزل قصير في سفر بعيد.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم " ما لي وللدنيا! وإنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار في يوم صائف فرفعت شجرة فقال تحت ظلها ساعة ثم راح وتركها ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضر وضيق أو في سعة ورفاهية بل لا يبني لبنة على لبنة.
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما وضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ورأى بعض الصحابة يبني بيتاً من جص فقال " أرى الأمر أعجل من هذا وأنكر ذلك وإلى هذا أشار عيسى عليه السلام حيث قال: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها.
وهو مثال واضح فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة
والمهد هو الميل الأول على رأس القنطرة واللحد هو الميل الآخر وبينهما مسافة محدودة فمن الناس من قطع نصف القنطرة ومنهم من قطع ثلثها ومنهم من قطع ثلثيها ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها.
وكيفما كان فلا بد له من العبور والبناء على القنطرة وتزيينها بأصناف الزينة وأنت عابر عليها غاية الجهل والخذلان.
مثال آخر للدنيا في لين موردها وخشونة مصدرها: اعلم أن أوائل الدنيا تبدو عينة لينة يظن الخائض فهيا أن حلاوة خفضها كحلاوة الخوض فيها وهيهات! فإن الخوض في الدنيا سهل والخروج منها مع السلامة شديد وقد كتب علي رضي الله عنه إلى سلمان الفارسي بمثالها فقال: مثل الدنيا مثل الحية لين مسها ويقتل سمها فأعرض عما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها وضع عنك همومها بما أيقنت من فراقها وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه عنه مكروه والسلام.
مثال آخر للدنيا في تعذر الخلاص من تبعتها بعد الخوض فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما مثل صاحب الدنيا كالماشي في الماء هل يستطيع الذي يمشي في الماء أن لا تبتل قدماه وهذا يعرفك جهالة قوم ظنوا أنهم يخوضون في نعيم الدنيا بأبدانهم وقلوبهم منها مطهرة وعلائقها عن بواطنهم منقطعة وذلك مكيدة من الشيطان بل لو أخرجوا مما هم فيه لكانوا من
أعظم المتفجعين بفراقها فكما أن المشي على الماء يقتضي بللاً لا محالة يلتصق بالقدم فكذلك ملابسة الدنيا تقتضي علاقة وظلمة في القلب بل علاقة الدنيا مع القلب تمنع حلاوة العبادة.
قال عيسى عليه السلام: بحق أقول لكم كما ينظر المريض إلى الطعام فلا يلتذ به من شدة الوجع كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب الدنيا وبحق أقول لكم إن الدابة إذا لم تركب وتمتهن تصعب ويتغير خلقها كذلك القلوب إذا لم ترقق بذكر الموت ونصب العبادة تقسو وتغلظ وبحق أقول لكم إن الزق ما لم ينخرق أو يقحل يوشك أن يكون وعاء للعسل كذلك القلوب ما لم تخرقها الشهوات أو يدنسها الطمع أو يقسيها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة وإنما مثل عمل أحدكم كمثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله.
مثال آخر لما بقي من الدنيا وقتلته بالإضافة لما سبق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل هذه الدنيا مثل ثوب شق من أوله إلى آخره فبقي متعلقاً بخيط في آخره فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع.
مثال آخر لتأدية علائق الدنيا بعضها إلى بعض حتى الهلاك: قال عيسى عليه السالم: مثل طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما شرب ازداد عطشاً حتى يقتله.
مثال آخر لمخالفة آخر الدنيا أولها ولنضارة أوائلها وخبث عواقبها اعلم أن شهوات الدنيا في القلب لذيذة كشهوات الأطعمة في المعدة وسيجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يده للأطعمة اللذيذة إذا بلغت في المعدة غايتها وكما أن الطعام كلما كان ألذ طعماً وأكثر دسماً وأظهر حلاوة كان رجيعه أقذر وأشد نتناً فكذلك كل شهوة في القلب هي أشهى وألذ وأقوى فنتنها وكراهتها والتأذي بها عند الموت أشد بل هي في الدنيا مشاهدة فإن من نبهث داره وأخذ ماله وولده فتكون مصيبته وألمه وتفجعه في كل ما فقد بقدر لذته به وحبه له وحرصه عليه فكل ما كان عند الوجود أشهى عنده وألذ فهو عند الفقد أدهى وأمر ولا معنى للموت إلا فقد ما في الدنيا.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للضحاك بن سفيان الكلابي " الست تؤتى بطعامك وقد ملح وقزح ثم تشرب عليه اللبن والماء قال: بلى قال " فإلام يصير " قال: إلى ما قد علمت يا رسول الله قال: " فإن الله عز وجل ضرب مثل الدنيا بما يصير إليه طعام ابن آدم وقال أبي بن كعب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الدنيا ضربت مثلاً لابن آدم فانظر إلى ما يخرج من ابن آدم وإن قزحه وملحه إلام يصير وقال صلى الله عليه وسلم " إن الله ضرب الدنيا لمطعم ابن آدم وضرب مطعم بن آدم للدنيا مثلاً وإن قزحه وملحه وقال الحسن: قد رأيتهم يطيبونه بالأفاويه والطيب ثم يرمون به حيث رأيتم وقد قال الله عز وجل " فلينظر الإنسان إلى طعامه " قال ابن عباس إلى رجيعه وقال رجل لابن عمر إني أريد أن أسألك وأستحي قال فلا تستحي واسأل قال إذا قضى أحدنا حاجته فقام ينظر إلى ذلك منه قال نعم إن الملك يقول له انظر إلى ما بخلت به انظر إلى ماذا صار.
وكان بشر بن كعب يقول انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول انظروا مثال آخر في نسبة الدنيا إلى الآخرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر أحدكم بم يرجع إليه.
مثال آخر للدنيا وأهلها في اشتغالهم بنعيم الدنيا وغفلتهم عن الآخرة وخسرانهم العظيم بسببها: علم أن أهل الدنيا مثلهم في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج إلى قضاء الحاجة وحذرهم المقام وخوفهم مرور السفينة واستعجالها فتفرقوا في نواحي الجزيرة فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف المكان خالياً فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأفقها لمراده وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أنوارها وأزهارها العجيبة وغياضها الملتفة ونغمات طيورها الطيبة وألحانها الموزونة الغريبة وصار يلحظ من بريتها أحجارها وجواهرها ومعادنها المختلفة الألوان والأشكال الحسنة المنظر العجيبة النقوش السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجدها وعجائب صورها ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إلهيا فلم يصادف إلا مكاناً ضيقاً حرجاً فاستقر فيه: وبعضهم أكب على تلك الأصداف والأحجار وأعجبه حسنها ولم تسمح نفسه بإهمالها فاستصحب منها جملة فلم يجد في السفينة إلا مكاناً ضيقاً وزاده ما حمله من الحجارة ضيقاً وصار ثقيلاً عليه ووبالاً فندم على أخذه ولم يقدر على رميه ولم يجد مكاناً لوضعه فحمله في السفينة على عنقه وهو متأسف على أخذه وليس
ينفعه التأسف.
وبعضه تولج الغياض ونسي المركب وبعد في متفرجه ومتنزهه منه حتى لم يبلغه نداء الملاح لاشتغاله بأكل تلك الثمار واستشمام تلك الأنوار والتفرج بين تلك الأشجار وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع وغير خال من السقطات والنكبات ولا منفعك عن شوك ينشب بثيابه وغضن يجرح بدنه وشوكة تدخل في رجله وصوت هائل يفزع منه وعوسج يخرق ثيابه ويهتك عورته ويمنعه عن الانصراف لو أراده فلما بلغه نداء أهل السفينة انصرف مثقلاً بما معه ولم يجد في المركب موضعاً فبقي في الشط حتى مات جوعاً.
وبعضهم لم يبلغه النداء وسارت السفينة فمنهم من افترسته السباع ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك ومنهم من مات في الأوحال ومنهم من نهشته الحيات فتفرقوا كالجيف المنتنة.
وأما من وصل إلى المركب بثقل ما أخذه من الأزهار والأحجار فقد استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من فوتها وقد ضيقت عليه مكانه فلم يلبث أن ذبلت تلك الأزهار وكمدت تلك الألوان والأحجار فظهر نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها.
فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هرباً منها وقد أثر فيه ما أكل منها فلم ينته إلى الوطن إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بتلك الروائح فبلغ سقيماً مدبراً.
ومن رجع قريباً ما فاته إلا سعة المحل فتأدى بضيق المكان مدة ولكن لما وصل إلى الوطن استراح ومن رجع أولاً وجد المكان الأوسع ووصل إلى الوطن سالماً.